أزمة كورونا ... حتمية التحول التربوي
إن حصر مفهوم التعليم في نطاق أسوار المدرسة فقط أمر يحتاج الى إعادة تفكير من ناحية فكرية وتنظيمية وإدارية ومجتمعية وثقافية وغيرها. عندما أتت فكرة التعليم النظامي في سالف العصر، تم تشييد أسوار المدارس على ضوئها، وتم حصر التعليم آنذاك في داخل أروقتها، وتم الاعتماد بشكل عام وكبير على الواجبات المنزلية وعلى التقييم التحريري ذو الورقة والقلم لقياس كمية المعارف التي يتلقاها أو بالأحرى يتلقنها الطلاب من الدراسة في المدارس.
وبمرور الزمن، استمر الحال على ما هو عليه واستمر دور المدارس ووظيفتها كما هو مع إدخال بعض التحسينات الشكلية، كتزويد الفصول بالسبورات الذكية عالية المواصفات دون دراية معظم المعلمون بكيفية استخدامها، وكتوفير كمبيوتر دائم العطل داخل كل فصل دون توفير شبكة انترنت، وكإنشاء منصة تعليمية ترفع عليها النسخ الالكترونية من الكتب الدراسية وأوراق العمل المستهلكة دون أدنى جدوى منها. فماذا لو صاحب استحداث السبورة الذكية تدريب للمعلمين، وماذا لو صاحب توفير الكمبيوترات الفصلية تفعيل لدور الدعم الفني، وماذا لو صاحب إنشاء المنصة تجديد وتنقيح للمحتوى ليكون تفاعلياً على الأقل حتى نستطيع أن نعتبرها منصة تعليمية كما تسمى حالياً.
كل ذلك لم يتم تجاهله عمداً ولكن بسبب قصر النظر حول مفهوم التعليم ومحدودية التوقعات من دور المدرسة التي يناط بها أن تقدم المعرفة بالصور النمطية ثم تختبر الطالب بمدى تحصيله المعرفي وعلى أساس ذلك يتم تحديد درجة استحقاقه من الانتقال للمرحلة التعلمية التي تليها، ولا عزاء للمهارات ولا لأساليب التفكير الناقد أو حل المشكلات ولا ... ولا ...الخ.
وقد لا يرى البعض أدنى مشكلة في ذلك، لأن وبكل أسف ذلك البعض لا يأبه إلا باقتطاف الثمرة النهائية وهي من وجهة نظره الشهادة بنسبة عالية مؤهلة لاستكمال المشوار التعليمي على ذات الوتيرة النمطية في التعليم العالي. وقد يعود السبب في ارتضاء تلك الصورة النمطية من التعليم من قبل البعض إلى الخوف من التغيير الذي يصاحبه في بادئ الأمر زيادة في الأعباء والمسئوليات لحين الاستقرار في المرحلة الجديدة المراد التغيير إليها. وأيضاً قد يعود السبب إلى ما قد يصاحب ذلك التغيير من التخلي عن الروتين المريح الذي يألفه البعض فتتم مقاومة هذا التغيير الذي يهدف للأفضل بشتى الطرق والوسائل لإحباط أي مشاريع تنموية في قطاع التعليم من شأنها النهوض به وتغيير صورته التقليدية التي لم تعد مجدية في وقتنا الحاضر المتطور.
ولأن قطاع التعليم هو قطاع متشعب ويمس كل بيت، فإن حدة المقاومة غالباً ما تكون عالية إلى درجة إفشال أي مسعى تعليمي تنموي. ومع كل خطوة أمل لإصلاح التعليم والنهوض به تحدث مثل كل تلك الأمور وغيرها ويصبح الجميع يدلي بدلوه ويفترض أن رأيه هو الصائب وما عدا ذلك مغلوط، ولا يتم حتى إعطاء الفرصة لاكتشاف الجديد والتآلف معه مع العلم أنه قد يكون أجدى ولكنه في واقع الأمر يتطلب تخطيطاً استراتيجياً لرسم سياساته، ويتطلب كذلك صبراً ودعماً من الجميع لإنجاحه.
ولهذا السبب تأخرنا وتأخر استعدادنا لتقبل أي نمط تعليمي مغاير عما يحدث داخل أسوار المدرسة، أو على الأقل رديف حتمي له، حتى آل بنا الحال إلى وقت نكاد نكون فيه بأمس الحاجة إلى ارتضاء ما هو متوافر بغض النظر عن جودته وبغض النظر عن ارتقائية حتى لأدنى مستويات الطموح السابقة، وذلك فقط من أجل ألا تتعطل الخطط التعليمية وحتى لا يتأخر انتقال الطلاب إلى المراحل اللاحقة.
ومع ظهور أزمة كورونا وتصاعد المطالبات بحلول فورية لإنقاذ المشهد التعليمي، وللتغلب على عدم قدرة الطلاب على العودة لمدارسهم، وتزايد الالحاح على تطبيق التعلم عن بعد بالصورة التي تتماشى والواقع التقني الموجود، وكذلك وجود بعض المحاولات من دول كثر للتوجه نحو التعلم عن بعد عبر الانترنت، إلا أن في مقابل كل تلك المناشدات ظهرت أصوات كثيرة أخرى مناهضة لهذا النوع من التعليم تشكك في جدواه وتتساءل حول مدى فاعلية هذا التحول المفاجئ والسريع!
ولو تمعنا في هذا التناقض الحاصل في الموقف التعليمي الحالي سنجد أن السبب وراءه هو التشبث بتلك الصورة النمطية للتعليم، فهم يريدون تعليم عن بعد يدار بعقلية وآلية التعليم داخل المدرسة دون الاعتبار للاختلاف المكاني والزماني، ودون إعارة أدنى اهتمام إلى الكيفية التي يتم فيه تقديم المحتوى التعليمي أو الأساليب التي يتم من خلالها قياس مدى التحصيل العلمي والذي يأتي في المرتبة الأولى قبل كل شيء من وجهة نظرهم.
وهنا بالتحديد يتجلى الخلل وتتضح العلة، فنقل فكر التعلم المدرسي النمطي إلى التعلم الرقمي هو أشبه بفكرة نقل السرج من ظهور الخيل إلى ظهور البقر، ففي ظاهر هذه الفكرة شيء من الابتكار واستثمار الموار المتاحة لتحقيق منفعةٍ أكثر، ولكن مع الأسف في باطن هذه الفكرة شيء من التخلف وعدم الواقعية والعملية. فكل وسط له ما يناسبه حيث أن التعلم الرقمي وبالذات للأطفال يتطلب تفاعل كبير من ولي الأمر كونه أصبح جزء من علمية التعلم، من حيث توفير الاجهزة والبيئة المناخية للدخول في السياق التعليمي ومتابعة التكاليف المنزلية إن وجدت، والعمل على ضمان عدم التشويش على صفو جو التعلم وغيرها من الأمور التي كانت المدرسة تقوم بها.
وبناءً على ذلك، وبما أن هناك تأكيد مؤصل من أبحاث علمية وتقارير من هيئات ومنظمات عالمية محايدة تبين أن تعليمنا المدرسي طيلة الأعوام الماضية لم يعمل بالكفاءة المرجوة منه ولم يحقق جميع أهداف التعليم المنشودة، فهذا يجعلنا نتساءل كتربويين ومهتمين بالشأن التعليمي: هل نقل الأسلوب التربوي ذاته والمنهج التعليمي ذاته إلى التعلم عن بعد عبر الانترنت يخولنا لأن ننشد تحقيق أهداف التعليم الطموحة تلك على النحو الذي يرضى تطلعات المجتمع ويستهدف تلبية كل متطلبات التنمية المستقبلية المرجوة من التعليم؟!
عن نفسي أشك في ذلك! حيث اعتقد أن التعلم عن بعد عبر الانترنت يتطلب ويستلزم في الأساس تغيير نمط الفكر الذي يدار به التعليم في الوسط الرقمي عن ذلك الفكر الذي يدار به التعلم في الوسط التقليدي. بالإضافة إلى ذلك، يجب مراعاة أمور أخرى مصاحبة من أهمها: أولاً الانتقال من التلقي والتلقين إلى التفاعل التعليمي واعتبار الحصة الدراسية الالكترونية هي بمثابة حصة تفاعل اجتماعي يتم من خلالها الحوار والنقاش وتبادل الافكار حول ما قام به المتعلم من قراءة أو اطلاع على أي مصدر تربوي سواء حدده له المعلم سلفاً أو تم تحديده من قبل العالم التكنولوجي المفتوح، حيث يستطيع المتعلم من خلال هذا الاسلوب التعاوني في التعلم من إعادة بناء ما قام به من تعلم ذاتي سابق. وهنا سوف يكون التعلم أكثر رسوخاً وأعمق فائدةً وخاصة عندما يسمح هذا التفاعل الاجتماعي الالكتروني من عمل ربط واقعي في العالم الذي نعيش به.
الامر الثاني وهو الجدول الدراسي أي المنهج المراد انجازه خلال فترة من الزمن من العام الدراسي وهو أمر لا يتماشى مع الواقع الالكتروني حيث أن الحصر المعرفي للمنهج يرسخ من سطحية التعليم ويحصر المعرفة في وقت زمني محدد وفي المقابل المعرفة اليوم لا حصر لها وتتغير وتتبدل ليس بالساعة وإنما بالدقيقة والثانية. لذا، لا يستوي نقل الأسلوب التعليمي المدرسي الممنهج بهيئته المجدولة إلى البيئة الرقمية غير المقيدة بوقت أو محتوى.
وعليه، متى ما تم تقبل التعليم بحلته الرقمية الجديدة من هذا المنظور ستصبح المدرسة الالكترونية في مثل هذا السياق مساحة مشجعة للتفكير الانتقادي والابتكاري والتفاعل الاجتماعي الإيجابي، المحبذ لنفوس المتعلمين والأكثر جدوى. وأيضاً سيلتزمون من تلقاء ذواتهم بتلك المدرسة الافتراضية والتي هي في الأساس عبارة عن كيان اجتماعي تعليمي وسيقدمون عليها بكل ايجابية وتعطش للمعرفة والتبادل المعرفي وفحص للمهارات وتكوين للاتجاهات المتماشية مع الطبيعة الحياتية. بالإضافة إلى أنه لن تكون هناك الاختبارات المتعارف عليها اليوم، وإنما سيتم تصميمها بصورة متوافقة مع البيئة الرقمية التي تقدم فيها، وقد يتغير حتى مسماها من اختبارات إلى تحديات أو مشاريع من شأنها تطوير قدرات الافراد المعرفية والمهارية وفق أهداف يرسمها التربويون طبقاً لمتطلبات التنمية والاتجاهات العلمية المستقبلية والتي تتغير من وقت لآخر.
وفي الختام، أرى أن ازمة كورونا هي بمثابة الفرصة الذهبية لكل تربوي وكل صاحب قرار تعليمي لكي يعيد النظر والتفكير لماهية التعليم في فترة ما بعد أزمة كورونا بإذن الله، ولبحث البدائل المنطقية التقنية للمدرسة أو إيجاد جملة من الأساليب المتقدمة التي تعزز دور المدرسة وتأصل دورها بما يتوافق وتطلعات الجميع. فمفهوم المدراس يجب يعاد تشكيله ليتم العمل من خلاله بصورة مغايرة عما هي عليه الآن، فربما من الأفضل والأجدى أن تكون المدارس في صورة كيانات اجتماعية للالتقاء والمشاركة الحية لطرح الافكار وربطها في الواقع الحي من جهة، وترك التعلم الذاتي متاحاً لكل فرد بأن يتعلم من خلال المصادر الممنوحة له بالمجان عبر العالم الافتراضي بما يتناسب وقدراته وميوله الخاصة من جهة أخرى.
المدونه ممتازه👍🏻
ردحذفالمدونة رائعه جداً
ردحذفالمدونه رائعه وفيها وعي كبير للنهوض في تطوير عملية التعليم
ردحذفأتفق من الدكتور في ما تم طرحه في هذا المقاال وأتمنى فعلا التعليم بعد أزمة كورونا يأخذ منحنى أخر ويكون هناك دور أكبر في التكلونجيا
ردحذفازمة كورونا هي بمثابة الفرصة الذهبية لكل تربوي وكل صاحب قرار تعليمي لكي يعيد النظر والتفكير لماهية التعليم في فترة ما بعد أزمة كورونا بإذن الله>>>> أتفق مع كلامك دكتور فايز وأتمنى أن نراه ثمرات هذا التفكير على أرض الواقع
ردحذفأعجبني كلام الدكتور حين قال (ولهذا السبب تأخرنا وتأخر استعدادنا لتقبل أي نمط تعليمي مغاير )لان بالفعل للأسف سياسه التعليم في الكويت سياسه قديمة ولم تتغير على مر الأجيال وبسبب كرونا أدخل علينا شي غريب ألا وهو التعليم عن بعد ب إستخدام الأجهزة الحديثة وعلينا الاستفادة من هذه المحنه للمستقبل بتطور التعليم
ردحذفاحسنت دكتور واتفق معك في ما طرحته
ردحذفيعطيك العافية دكتور على هذه المدونة الهادفة فعلاً ومن الممتع قرائتها ومشاركة ارائنا فيها واتمنى ان تزيد كمية المواضيع فيها للاستفادة
ردحذفيعطيك الف عافية و اتفق معاك بهالجملة "إن حصر مفهوم التعليم في نطاق أسوار المدرسة فقط أمر يحتاج الى إعادة تفكير من ناحية فكرية" يجب تطوير هالمفاهيم
ردحذفمحاظره رائعه وتساعد كثيراً في إعطاء حلولًا جيده لتطوير عمليه التعليم
ردحذفمدونة واقعية جداً تلامس مشاكلنا بالواقع وأكثر فقرة واقعية هي الفقرة الثانية لما تحتوي على مشاكل كنا نعاني منها ومازالت للاسف موجودة هذه المشاكل ، و أيضاً اتفق معك بشدة في هذه الجملة "يكون التعلم أكثر رسوخاً وأعمق فائدةً وخاصة عندما يسمح هذا التفاعل الاجتماعي الالكتروني من عمل ربط واقعي في العالم الذي نعيش به" لأن التفاعل في الحصة أهم أسباب فهم الطالب و رسوخ المعلومة أثناء المناقشة... شكراً لك دكتور
ردحذفصحيح كلامها للاسف و اتمنى هذه المشاكل تنحل حسب ماورد في المدونة
حذفيعطيك العافية دكتور مدونة مفيدة وفيها وعي كبير جدًا وأتمنى من الجميع قراءتها.
ردحذفيعطيك العافية دكتور و شكرا على هذه المدونة واكيد المعلومات استفدنا منها وحيل مهمة لنا
ردحذفبرأيي أزمة كورونا أسفرت عن ايجابيات وسلبيات التعليم بالكويت. فهناك من استغل هذه الفرصة الذهبية للتطوير والانتقال من التعليم التقليدي الى الأونلاين. وهناك من ماطل وعارض، وهذا يدل على محدودية التفكير وقلة الوعيّ، علمًا بأن لكل طرف أسبابه الخاصه ولكن هذا لايمنع أن ننهض بتعليمنا ومؤسساتنا. بالنهاية نسأل الله التوفيق، وأن يسخّر لنا ماهو أفضل دائمًا وأبدًا، وشكرًا دكتور لإتاحة لنا حريّة التعليق.
ردحذفكلام واقعي فيجب أن يكون هناك تغيير جذري ورؤية جديدة للتعليم في الكويت بعد ما عشناه في أزمة كورونا
ردحذفالمدونة رائعة ومفيدة جدا يعطيك العافية دكتور
ردحذفمدونة جميلة مملوئة بالآراء والأفكار و المعلومات المفيدة، يعطيك العافية دكتور
ردحذفرب ضارة نافعة ، كان الخير من ازمه كورونا التي نراها ضارة هو الدخول الى عالم التعلم عن بعد فكان لابد منا ان نكون مستعدين من قبل ، فالتعليم الالكتروني والتقليدي مع بعضها افضل مسايرة للاحداث التي قد تطرأ علينا
ردحذفافضتم وأجدتم بروفيسور ... الفعل التربوي يحتاج الى قراءات راهنية استجابة للتحولات والتحديات الطارئة واعتقد انه قبل ذلك يحتاج الى قرارات شجاعة تتطلب فتح المجال للخروج عن القوالب السائدة.
ردحذفنحتاج حقا الى فلسفة في تربية ..التنوير التربوي يبدأ من هنا و بمثل أقلامكم سيدي كريم نأمل في نهضة تربوية منشودة .
بوركت بروفيسور فايز ظفيري .
افضتم وأجدتم بروفيسور ... الفعل التربوي يحتاج الى قراءات راهنية استجابة للتحولات والتحديات الطارئة واعتقد انه قبل ذلك يحتاج الى قرارات شجاعة تتطلب فتح المجال للخروج عن القوالب السائدة.
ردحذفنحتاج حقا الى فلسفة في تربية ..التنوير التربوي يبدأ من هنا و بمثل أقلامكم سيدي كريم نأمل في نهضة تربوية منشودة .
بوركت بروفيسور فايز ظفيري